طريق التنويرفكر وآراء

طريق التنوير: فضح ابن رشد لخطاب الفِتنة

تجدد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفتنة‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬الحركة‭ ‬السيَّاسيَّة‭ ‬الديمقراطيَّة‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬بلداننا‭ ‬نهاية‭ ‬سنة‭ ‬2010‭. ‬واعتبر‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬موجة‭ ‬صراعات‭ ‬أهليَّة‭ ‬ستنطلق‭ ‬لا‭ ‬محالة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬السلطة‭ ‬الذي‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وبلغ‭ ‬أشده‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬قوى‭ ‬مستعدة‭ ‬للتضحيَّة‭ ‬ببلدانِها‭ ‬ومكتسباتها‭ ‬لصالح‭ ‬لعبة‭ ‬دوليَّة‭ ‬أو‭ ‬إقليميَّة‭. ‬واتخذ‭ ‬الصراع‭ ‬حول‭ ‬السُّلطة‭ ‬أشكالاً‭ ‬عنيفةً‭ ‬مترافقاً‭ ‬مع‭ ‬الدعاية‭ ‬لخطاب‭ ‬ديني‭ ‬يدعي‭ ‬امتلاك‭ ‬الحل‭ ‬السِّحري‭ ‬باسم‭ ‬الشريعة‭.‬

احتل‭ ‬موضوع‭ ‬الفتنة‭ ‬مكانةً‭ ‬هامَّة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المسلمين‭ ‬منذ‭ ‬الفتنة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬معظم‭ ‬المفكرين‭ ‬والمثقفين‭ ‬المرموقين‭ ‬طوال‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬تمَّ‭ ‬ربط‭ ‬الفِتنة‭ ‬بالدِّين‭ ‬باعتبارها‭ ‬اضطراب‭ ‬الأوضاع‭ ‬السيَّاسيَّة‭ ‬داخل‭ ‬مدينة‭ ‬من‭ ‬المُدن‭ (‬الدولة‭ ‬حالياً‭) ‬بلغة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬موضوع‭ ‬الفتنة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬الذي‭ ‬عاصر‭ ‬الاضطراب‭ ‬السيَّاسي‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬المُرابطي‭ ‬إلى‭ ‬المُوحدي‭ ‬واكتوى‭ ‬بنارها‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬تناولها‭ ‬من‭ ‬زاويَّةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬بحيث‭ ‬اتخذ‭ ‬موقفاً‭ ‬صريحاً‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬وظَّفت‭ ‬الدِّين‭ ‬لخدمة‭ ‬أغراض‭ ‬سيَّاسيَّة،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬الفِتنة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سنداً‭ ‬قويّاً‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬المدينة‭ ‬وتقويَّة‭ ‬نُفوذ‭ ‬حاكِمٍ‭ ‬معين‭ ‬ضد‭ ‬آخر،‭ ‬كما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬اضمحلالها‭ ‬ووهنها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تُدخلها‭ ‬في‭ ‬دوامةٍ‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬المجنون‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تقهقر‭ ‬الأوضاع‭ ‬والأحوال‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬المناحِي‭.‬

يقول‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬المقال‭: ‬‮«‬ومن‭ ‬قبل‭ ‬التأويلات،‭ ‬والظن‭ ‬بأنها‭ ‬مما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يصرح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الشَّرع‭ ‬للجميع،‭ ‬نشأت‭ ‬فرق‭ ‬الإسلام‭ ‬حتى‭ ‬كفَّر‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً،‭ ‬وبدعُ‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الفِاسدة‭ ‬منها،‭ ‬فأولت‭ ‬المعتزلة‭ ‬آيات‭ ‬كثيرة‭ ‬وأحاديث‭ ‬كثيرة،‭ ‬وصرحوا‭ ‬بتأويلهم‭ ‬للجمهور،‭ ‬وكذلك‭ ‬فعلت‭ ‬الأشعريَّة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أقلُ‭ ‬تأويلاً،‭ ‬فأوقعوا‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬شنآن‭ ‬وتباغض‭ ‬وحروب‭ ‬ومزقوا‭ ‬الشرع،‭ ‬وفرقوا‭ ‬الناس‭ ‬كل‭ ‬التفريق‮»‬‭ . ‬ويرجع‭ ‬معضلة‭ ‬الفتنة‭ ‬إلى‭ ‬سوء‭ ‬تأويل‭ ‬معاني‭ ‬الشرع‭ ‬ودلالاته،‭ ‬بل‭ ‬والتصريح‭ ‬للجميع‭ ‬بتأويلهم،‭ ‬مما‭ ‬أدخل‭ ‬الفِرق‭ ‬على‭ ‬تباينها‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬حول‭ ‬السُّلطة‭ ‬واصطفاف‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الحاكم‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬خدمةً‭ ‬لأغراض‭ ‬ومصالح‭ ‬معينة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الاصطفاف‭ ‬السيَّاسي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬دوماً‭ ‬إلى‭ ‬تقويَّة‭ ‬جناحٍ‭ ‬ضد‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يجنح‭ ‬عليهما‭ ‬معاً‭ ‬وتنفلت‭ ‬الأمور‭ ‬ويتهاوى‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬مما‭ ‬يسمح‭ ‬بظهور‭ ‬صراعات‭ ‬عنيفة‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬نقمةً‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭. ‬

ليست‭ ‬الفِتنة‭ ‬مجرد‭ ‬اندلاع‭ ‬أعمال‭ ‬عنيفة‭ ‬بين‭ ‬الطوائف‭ ‬أو‭ ‬الجماعات‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬تأويلاتها‭ ‬للشريعة،‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬حرباً‭ ‬أهليَّة،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬انشطار‭ ‬المجتمع‭ ‬وبداية‭ ‬تفكك‭ ‬الروابط‭ ‬الاجتماعيَّة‭ ‬ونظام‭ ‬العلاقات‭ ‬المعهودة،‭ ‬واضمحلال‭ ‬منظومة‭ ‬القيَّم‭ ‬السائِدة،‭ ‬مما‭ ‬يحتم‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬معاً‭ ‬الاحتماء‭ ‬بالقوي‭ ‬طلباً‭ ‬للنجاة‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬العنف،‭ ‬وهكذا‭ ‬يدخل‭ ‬المجتمع‭ ‬ككل‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬عنف‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتنبأ‭ ‬بما‭ ‬ستفضي‭ ‬إليه‭.‬

كرَّس‭ ‬أبي‭ ‬الوليد‭ ‬وقته‭ ‬لتأمل‭ ‬أوضاع‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقاليَّة‭ ‬لنظام‭ ‬الحكم‭ ‬آنذاك،‭ ‬وكشف‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬الفِتنة‭ ‬الذي‭ ‬عمَّمته‭ ‬التأويلات‭ ‬المتعددة‭ ‬لنص‭ ‬الشرع،‭ ‬وهاجم‭ ‬كبار‭ ‬رموز‭ ‬منظري‭ ‬الفِتنة‭ ‬معتبراً‭ ‬أن‭ ‬الغزالي‭ ‬يُجسد‭ ‬أرقى‭ ‬خطابات‭ ‬الفِتنة‭ ‬في‭ ‬زمانه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مشرِّعُ‭ ‬لها‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬الثاني‭ ‬لكتاب‭ ‬الاقتصاد‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ (‬ص19‭): ‬‮«‬طائِفةٌ‭ ‬مالت‭ ‬عن‭ ‬اعتقاد‭ ‬الحق‭ ‬كالكفرة‭ ‬والمُبتدعة،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬معهم‭ ‬إلا‭ ‬الُّسوط‭ ‬والسَّيف‭ ‬فأكثر‭ ‬الكفرة‭ ‬أسلموا‭ ‬به‮»‬‭. ‬وكلام‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬يُحدِث‭ ‬الفرقة‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬ويصنفهم‭ ‬بحسب‭ ‬المعتقد‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬وطريقة‭ ‬التصرف‭ ‬والتعبد،‭ ‬وليس‭ ‬بغريب‭ ‬عن‭ ‬وضعنا‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم،‭ ‬بحيث‭ ‬نسمع‭ ‬أمام‭ ‬الملأ‭ ‬فتاوى‭ ‬غريبة‭ ‬وعجيبة‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬حتى‭ ‬مقتضيات‭ ‬القيَّاس‭ ‬الشرعي‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬احتكامها‭ ‬للقيَّاس‭ ‬العقلي،‭ ‬وتزيد‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬انتشار‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الانقسامي،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬وسيلة‭ ‬لتفكك‭ ‬المجتمع،‭ ‬انتشار‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬المتاحة‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬مجاني‭ ‬لكل‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬حد‭ ‬التشهير‭ ‬بأحكام‭ ‬الرِّدة‭ ‬والتكفير‭ ‬وإلصاق‭ ‬التهم‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يفضح‭ ‬خيوط‭ ‬اللُّعبة‭ ‬ويكشف‭ ‬خبايا‭ ‬خطاب‭ ‬تجار‭ ‬الدِّين،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬نِقمة‭ ‬الأوضاع‭ ‬السيَّاسيَّة‭ ‬والاقتصاديَّة‭… ‬لا‭ ‬تربطها‭ ‬صلة‭ ‬بالدِّين،‭ ‬بل‭ ‬بطبيعة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة‭.‬

يرجع‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬أسباب‭ ‬الفتنة‭  ‬إلى‭: ‬التأويلات‭ ‬المتضاربة‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬صناعة‭ ‬يتعاطاها‭ ‬صِنفُ‭ ‬من‭ ‬النَّاس،‭ ‬والتصريح‭ ‬بها‭ ‬للجمهور،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وإلى‭ ‬الإجماع‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬التأويل‭ ‬المشوَّه‭ ‬والإجماع‭ ‬المغشوش‭. ‬هكذا‭ ‬شنَّ‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬هجومه‭ ‬على‭ ‬المتكلمين‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الفلسفة‭ ‬لبيان‭ ‬استتبابهم‭ ‬بالفتنة‭ ‬واحداث‭ ‬التفرقة،‭ ‬لذلك‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬‮«‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬مناهج‭ ‬الأدلة‮»‬‭: ‬فالناس‭ ‬‮«‬قد‭ ‬اضطربوا‭ ‬كل‭ ‬الاضطراب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشريعة‭ ‬حتى‭ ‬حدثت‭ ‬فرق‭ ‬ضالة‭ ‬وأصناف‭ ‬مختلفة،‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الشريعة‭ ‬الأولى‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬خالفه‭ ‬إما‭ ‬مبتدع‭ ‬وإما‭ ‬كافر،‭ ‬مستباح‭ ‬الدم‭ ‬والمال‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬استناد‭ ‬خطاب‭ ‬الحركات‭ ‬الدينيَّة‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬فكيف‭ ‬أمكنها‭ ‬تجنب‭ ‬نصوص‭ ‬صريحة‭ ‬بخصوص‭ ‬الفتنة‭: ‬‮«‬الفتنة‭ ‬أشد‭ ‬من‭ ‬القتل‮»‬‭ ‬؛‭ ‬‮«‬واتقوا‭ ‬فتنة‭ ‬لا‭ ‬تصيبن‭ ‬الذين‭ ‬ظلموا‭ ‬منكم‭ ‬خاصة‮»‬‭ ‬؛‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الذين‭ ‬فتنوا‭ ‬المؤمنين‭ ‬والمؤمنات‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يتوبوا‭ ‬فلهم‭ ‬عذاب‭ ‬جهنم‭ ‬ولهم‭ ‬عذاب‭ ‬الحريق‮»‬‭ ‬؟‭ ‬ما‭ ‬السبيل‭ ‬للرقي‭ ‬بأوضاعنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى