السياسة

مساهمة حزب الطليعة في مناقشة الورقة السياسية المقدم المؤتمر الاول للجبهة العربية التقدمية

حركة التحرر العربية: اسباب التقهقر وافاق التطور

تقديم : من خلال مقاربة تكاملية لما ورد في الورقة السياسية للمؤتمر الأول للجبهة العربية التقدمية تتوخى هذه الورقة اقتراح تشخيص موضوعي للأعطاب التاريخية والبنيوية التي أثرت بعمق على مسار حركة التحرر العربية بمختلف تياراتها ومكوناتها، والوقوف على معضلاتها الحالية وتقديم اقتراحات واقعية لتجاوز الأزمة المزمنة التي أسفرت عقودا من الزمن دون أن تفلح المبادرة الشجاعة والتضحيات الجسيمة في هذا القطر العربي أو ذاك من ولوج عصر الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أما هدف الوحدة فقد تحول إلى سراب بفعل تكرار التجارب الفاشلة وتراكم خيبات الأمل.

  • أولا: أعطاب النشأة ومعيقات النهضة:

كان السؤال الأول الذي طرحه رواد النهضة على أنفسهم هو “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم” بحيث كانت رؤية أولئك الرواد رؤية تشوبها الحيرة والغموض عكستها دعواتهم ومساهماتهم في التعامل مع صدمة الحداثة والرغبة في تدارك التأخر التاريخي الذي عانت منه الشعوب العربية والإسلامية. وإذا كان من غير المجدي التذكير بالإشكاليات الكبرى التي واجهها الفكر العربي منذ أكثر من قرن، فإنه لابد من الإقرار بأن فشل المحاولات الأولى للنهضة والتحديث وبناء الدولة – الأمة على غرار ما حدث في اليابان في عصر المييجي مثلا قد جعل من احتلال البلدان العربية من طرف الامبراطوريات الاستعمارية الغربية أمرا حتميا.

لقد تعرضت جل الأقطار العربية اتباعا للاحتلال والغزو الاستعماري طيلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بداية باحتلال الجزائر سنة 1830 وانتهاء بسقوط المغرب تحت الحماية الفرنسية سنة 1912. ولم تتمكن المقاومة الباسلة للشعوب العربية من صد الزحف الاستعماري بسبب الفوارق التكنولوجية الكبيرة وضعف التنظيم وتشتت قوى المقاومة لقد سجل التاريخ الحديث بطولات وملاحم كبرى مثل مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري ومقاومة شيخ المجاهدين بليبيا عمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي، وثورة عبد الكريم الخطابي بالريف المغربي، وثورة عبد القادر الحسيني بفلسطين، وغيرها من انتفاضات القبائل لكن غياب حركة سياسية موحدة على امتداد الوطن العربي بقيادة قومية تمتلك استراتيجية تحررية واضحة ظل هو العامل الأبرز، وقد كان لهزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى تأثير مباشر في استيقاظ الشعور القومي وتأسيس الأنوية الأولى لحركة التحرير العربية خاصة بعد وعد بلفور المشؤوم واتفاقية سايس بيكو وتمكين العصابات الصهيونية من التسلل والتغلغل في فلسطين تمهيدا لإقامة الكيان الصهيوني بها.

هذه المرحلة ستنتهي كما هو معلوم بظهور خريطة جديدة لمنطقة المشرق العربي وحصول بعض الأقطار العربية على استغلالها السياسي، وقد كان للحرب العالمية الثانية وما ترتب عنها من نظام عالمي جديد تحكمه القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي التأثير الحاسم على ما ستعرفه المنطقة العربية منذ ذلك الحين من تحولات عميقة وجذرية، وكان أخطر ما حدث في بداية تلك المرحلة والمنطقة المغاربية لازالت تحت الاستعمار الفرنسي هو إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني بدعم الدول الاستعمارية واعتراف الاتحاد السوفياتي بها وهزيمة الجيوش العربية في أول مواجهة عسكرية معها، وقد كان للموقف السوفياتي تأثير سلبي على مواقف الأحزاب الشيوعية العربية عطل انخراطها في الكفاح القومي.

  • ثانيا: مرحلة النهوض القومي والتورات الوطني:

كان لنكبة فلسطين تداعيات كبيرة ومؤثرة على الشعوب العربية ادت إلى تأجيج الغضب لدى الشباب المتعلم خاصة في البلدان المحيطة بفلسطين، وتمكن تنظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في مصر من القيام بثورة 23 يوليوز 1952 التي فتحت حقبة الثورات الوطنية في باقي الأقطار العربية.

وهكذا وفي سياق الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، عاشت المنطقة نهوضا ثوريا غير مسبوق بزعامة الثورة الناصرية الحقت الهزائم بالاستعمارين الإنجليزي والفرنسي سواء بالمشرق (تأميم قناة السويس) أو بالمنطقة المغاربية (استقلال تونس والمغرب والجزائر)، ولأن جدلية الصراع يطبعها المد والجزر، التقدم والتراجع فقد واجهت فصائل حركة التحرر العربية في كل قطر على حدة معضلات كبرى لم تكن تلك الفصائل تتوفر على ما يكفي من الخبرة والمعرفة العلمية لحلها وتجاوز الفخاخ التي نصبتها قوى الاستعمار الجديد. فمعضلات من حجم الخروج من التخلف وإعادة بناء الاقتصاد الوطني المنهار بسبب حروب التحرير، وبناء المؤسسات الوطنية وتطهير الإدارة من عملاء الاستعمار، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة، أدت إلى تأجيج التناقضات الثانوية وتفجير الصراعات والخلافات الايديولوجية والسياسية وبروز الطموحات الشخصية، وبالتالي السقوط في تصفية الحسابات بين قادة الثورات أنفسهم وتعثر المشروع القومي التحرري في نهاية المطاف.

إن فشل أول تجربة وحدوية بين مصر وسوريا، ومضاعفات حرب اليمن على الثورة الناصرية ثم نجاح الإمبريالية الأمريكية في تدبير سلسلة من الانقلابات الرجعية ضد الأنظمة التقدمية في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية واغتيال قادة ثوريين كباتريس لمومبا في الكونغو والمهدي بن بركة في فرنسا وشي غيفارا في بوليفيا، وتصعيد العدوان ضد الثورة الفيتنامية، كل ذلك الحق أضرارا فادحة بحركات التحرر الوطني في القارات الثلاث، توجت بحرب يونيو 1967 التي مثلث أكبر نكسة للمشروع القومي العربي التحرري. وبالرغم من انطلاق الثورة الفلسطينية بفصائلها الثورية وأدائها البطولي في معركة الكرامة إلا أن مؤامرة أيلول الأسود ووفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وسوء تدبير حرب اكتوبر 1973، كل ذلك ساهم في انتقال زمام المبادرة إلى الرجعية العربية وقوى الثورة المضادة. ومنذ اتفاقية كامب ديفيد السيئة الفكر التي غيرت بشكل حاسم ميزان القوى مع العدو الصهيوني، تعمقت أزمة حركة التحرر العربية بسبب الصراعات الداخلي العميقة والأخطاء القاتلة مثل الحرب العراقية الإيرانية وإرغام منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة بيروت بعد الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982، وتفكك جبهة الصمود والتصدي.

ومن سوء حظ الشعوب العربية أن تزامن مسلسل التراجع والتردي مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وحصار العراق بعد إخراجه من الكويت وتحطيم جيشه وبنياته التحتية. وبذلك اكتملت حلقات المخطط الصهيوني الامبريالي الرجعي مع زحف العولمة الليبرالية والأحادية القطبية مما سهل وساعد على الانفراد بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية واستدراجها لتوقيع اتفاقية أسلو فبعد فقدان الحليف السوفياتي وتصفية تجربة اليمن الجنوني، واخضاع العراق لحصار شامل وقاتل، واستمرار الحرب الأهلية اللبنانية لخمسة عشر سنة، ضاق هامش المناورة أمام الثورة الفلسطينية فخضعت قيادتها الرسمية للضغوط العربية والاجنبية وراهنت على ما سمي بالحل السلمي.

لم تمر إلا سنوات قليلة بعد ذلك فوقعت أحداث 11 شتنبر 2001 فاستغلت الامبريالية الأمريكية الفرصة فاحتلت أفغانستان والعراق، لكن مضاعفات اندفاعها الجنوني للنهب والسيطرة ستنعكس بالسوء على أوضاعها المالية والاقتصادية فارتفعت مديونية الدولة والأسر بشكل غير مسبوق مما أدى إلى انفجار الأزمة المالية سنة 2007 التي تحولت إلى أزمة اقتصادية كبرى استمرت لمدة خمس سنوات، وأدت إلى هزيمة انتخابية للمحافظين الجدد، ووصول أول زعيم أسود للبيت الأبيض. خلال الولاية الأولى لأوباما كما هو معلوم، اندلعت في نهاية 2010 شرارة ثورة شعبية في تونس انتهت بسقوط النظام وانتقلت الثورة لباقي الأقطار العربية التي كان فيها الاحتقان الشعبي قد وصل إلى مداه كمصر وليبيا واليمن والمغرب. لكن في ذلك السياق المليء بالغموض والتوتر سارع التحالف الصهيوني الامبريالي الرجعي إلى تلغيم الانتفاضات الجماهرية وتحريفها عن مسارها من خلال تجنيد مسبوق لإمكانياته المالية والاعلامية وتسهيل مأمورية القوى الظلامية للوصول للسلطة ومصادرة حقوق الجماهير في الحرية والديمقراطية والكرامة، خاصة في بلدان كـ ليبيا وسوريا لأهميتها الاستراتيجية وثرواتها النفطية. وقد كشفت ثمان سنوات من الحرب الطاحنة والموجهات الضارية في العراق وسوريا خلفيات المخطط الجهنمي وابعاده الخطيرة على حاضر ومستقبل شعوب المنطقة. ولهذا لا يسعنا إلا أن نجدد التعبير عن اعتزازنا وتقديرنا وتنويهنا بصمود الشعب السوري وجيشه البطل وقيادته الشجاعة.

  • ثالثا: في الحاجة الى حركة تحرر عربية متجددة:

أدى انفجار الأزمة المالية بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2008 إلى فضح الخديعة الكبرى للطغمة المالية التي روجت لأطروحة نهاية التاريخ واعتبار الرأسمالية المعولمة نظاما غير قابل للتجاوز وتبين بالملموس أنه رغم ما يمر به العالم حاليا من صراعات وتوترات ناتجة عن اصرار الامبريالية الأمريكية إطالة أمد الأحادية القطبية الذي يخدم مصالحها فإن المخاض العسير لانتقال العالم إلى تعددية قطبية، وتوازنات كبرى جديدة قد بدأ بالفعل ولا مجال للرجوع إلى الوراء، وهذا ما جعل منظرا اقتصاديا كبيرا كسمير أمين يتحدث عن شيخوخة الرأسمالية. أما السياسة الهمجية لترامب فلا مستقبل ولا أفق لها، بل يمكن اعتبارها عاملا إضافيا في توضيح حقيقة وإبعاد الصراع على المستويين العربي والدولي رغم ما تتسبب فيه من أذى والآم ومصائب لشعوبنا في الفترة الراهنة.

لقد وصلت الرأسمالية المعولمة لهذه المرحلة الخطيرة والمفتوحة على أسوأ الاحتمالات نتيجة إصرار المراكز الامبريالية الغربية على إعادة هيكلة الخريطة السياسية لمناطق عديدة وخاصة المنطقة العربية للتحكم في المواقع الاستراتيجية، واحتياطات الطاقة وتحويل ثروة منطقة الخليج لدعم الصناعات الامريكية والأوروبية لمواجهة المنافسة القوية للصين والدول الأسيوية الصاعدة.

وقد كشفت سياسة ترامب العدائية للعرب ولإيران ان هاجس المركب الصناعي العسكري الأمريكي هو توظيف أي شيء وفي خرق سافر للقوانين الدولية على علتها للحفاظ على تفوق القوة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والتحكم لأطول مدة ممكنة في مصير العالم. في هذا السياق يمكن فهم خلفيات القرارات الترامبية المتعلقة بإيران والقدس والجولان وفنزويلا التي أحرجت وأربكت حلفائه الأوربيين أنفسهم. ومن جهة أخرى كشف حرب التحالف السعودي على اليمن وخطوات تطبيع الأنظمة الرجعية العربية مع الكيان الصهيوني وقبل ذلك انفضاح دورها القذر في التآمر على العراق وسوريا ومدى انخراطها في المخطط الأمريكي الصهيوني واستعدادها لفعل أي شيء وكل شيء مقابل حماية وجودها واستمرارها في الحكم.

هذه المعطيات بالإضافة للفشل الذريع لكل محاولات التنمية القطرية في البلدان العربية على أنقاض الدولة الوطنية، والتوجهات التحررية والتقدمية للستينات والسبعينات من القرن الماضي، وتخريب الأمن القومي العربي بتوظيف واستعمال التنظيمات الظلامية والإرهابية ومحاولات إقبار القضية الفلسطينية ضدا على حقوق الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة وبناء دولته الوطنية المستقلة والديمقراطية. كل هذا يجعل الحاجة ماسة وملحة لإعادة بناء حركة تحرر عربية متجددة وقادرة على بلورة استراتيجية نضالية موحدة لجميع الأحزاب والتنظيمات التقدمية بالمنطقة من أجل التصدي للمخطط الإمبريالي الصهيوني الرجعي العربي وافشاله والارتقاء بالنضال الوحدوي بأهداف واضحة ووسائل فعالة وناجحة وبرامج واقعية قابلة للتطبيق حسب خصوصية كل قطر عربي.

إن الأمر لا يتعلق بدعوة مثالية تعكس حنينا للماضي وتسعى لدغدغة العواطف بل برؤية استراتيجية تستحضر دروس التجارب السابقة واكراهات الحاضر وتحديات المستقبل. ففي عصر العولمة والثورة الرقمية لا مستقبل للكيانات والدويلات الصغرى، ولا تنمية حقيقية ومستدامة بدون بنيات انتاجية. فلاحية وصناعية وخدماتية قوية وسوق واسعة قادرة على استيعاب ما تنتجه تلك الوحدات الانتاجية، وكما حدث في جميع القارات ومناطق العالم الصاعدة والمتحضرة يلعب التنظيم السياسي دور العمود الفقري في أي مشروع مجتمعي وبالتالي فبدون إطار سياسي عربي موحد قادر على تجميع وتوحيد وتأطير الطاقات البشرية الهائلة التي تزخر به مجتمعاتنا يستحيل تحقيق أو انجاز نهضة عربية حقيقية.

إن احتجاجات السودان المستمرة منذ دجنبر 2018، وحراك الجزائر الذي أدى حتى الآن إلى استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يؤكد من جديد أن مخاض التغيير داخل المجتمعات العربية لازال مستمرا، وأن هذا المخاض العسير بسبب تغول قوى الفساد والاستبداد من جهة وغياب حركة ثورية قادرة على تأطير الجماهير من جهة أخرى، سيؤدي لا محالة إلى فرز قوى سياسية جديدة، وفي هذا السياق تبرز الحاجة إلى اطار سياسي عربي وحدوي يتوفر على رؤية استراتيجية ومشروع مجتمعي يستجيب لتطلعات وانتظارات الشعوب العربية ونامل تجسيد الجبهة العربية التقدمية هذا الاطار بالذات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى