الملف

التعاقد مسمار في نعش المدرسة العمومية

◆ محمد ابلاغ

كل‭ ‬متتبع‭ ‬للشأن‭ ‬التعليمي‭ ‬بالمغرب‭ ‬سيلاحظ‭ ‬هجوما‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المكتسب‭ ‬البسيط‭ ‬للشعب‭ ‬المغربي،‭  ‬فبعد‭ ‬تشجيع‭ ‬المدارس‭ ‬الخاصة‭ ‬وفرش‭ ‬طريقها‭ ‬بالورود‭ ‬نحو‭ ‬اكتساح‭ ‬القطاع،‭ ‬وبعد‭ ‬تمرير‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬والمناهج‭ ‬التخريبية‭ ‬التي‭ ‬أرْدَت‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬مرتعا‭ ‬للعنف‭ ‬والإجرام،‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬أمام‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬غير‭ ‬دق‭ ‬مسمار‭ ‬واحد‭ ‬لاستكمال‭ ‬غلق‭ ‬نعش‭ ‬مجانية‭ ‬التعليم‭ ‬وإقبارها‭ ‬للأبد،‭ ‬مسمار‭ ‬واحد‭ ‬استعصى‭ ‬على‭ ‬مطارقهم‭ ‬دقه‭ ‬وتقويمه،‭ ‬مسمار‭ ‬صلب‭ ‬أبى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اليد‭ ‬الخشبية‭ ‬لفأس‭ ‬يٌحمَل‭ ‬منها‭ ‬لقطع‭ ‬وقتل‭ ‬الشجرة‭ ‬الأم‭. ‬إنه‭ ‬المعلم‭ ‬عماد‭ ‬المدرسة‭ ‬والمجتمع‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لازال‭ ‬يقاوم‭ ‬رغم‭ ‬محاولات‭ ‬تقزيم‭ ‬قامته‭ ‬المنتصبة‭ ‬وكسر‭ ‬هامته‭ ‬السامية‭.‬

فكيف‭ ‬يكون‭ ‬قدوةً‭ ‬ومثالاً‭ ‬إذا‭ ‬انصاع‭ ‬وخان‭ ‬أمه‭ ‬الحنون‭ ‬التي‭ ‬احتضنته‭ ‬لسنوات‭ ‬واحتضنت‭ ‬أجيالاً‭ ‬من‭ ‬قبله،‭ ‬وكيف‭ ‬يزرع‭ ‬أسس‭ ‬الإخلاص‭ ‬والتحدي‭ ‬لدى‭ ‬المتعلمين‭ ‬إذا‭ ‬استسلم‭ ‬للأنانية‭ ‬وصار‭ ‬جزءاً‭ ‬وشريكاً‭ ‬في‭ ‬مؤامرة‭ ‬إقبار‭ ‬حقهم‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬والوظيفة‭ ‬العموميتين‭.‬

التعاقد‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬والسبل‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬هدف‭ ‬واحد‭ ‬وأوحد‭ ‬وهو‭ ‬إنهاء‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ “‬المدرسة‭ ‬العمومية‭” ‬والتخلص‭ ‬منها‭ ‬نهائيا‭ ‬وللأبد‭.‬

فالهدف‭ ‬الذي‭ ‬تصبو‭ ‬إليه‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬استجابةً‭  ‬لرغبات‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬وتلبيةً‭ ‬لإملاءات‭ ‬هو‭ ‬التخلص‭ ‬مما‭ ‬تسميه‭ “‬القطاعات‭ ‬المكلفة‭ ‬وغير‭ ‬المنتجة‭” ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬التعليم،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬رسمت‭ ‬مخططات‭ ‬إقصائية‭ ‬تخريبية‭ ‬عبر‭ ‬مراحل‭ ‬متتالية‭ ‬ومحبوكة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخوصصة‭ ‬الشاملة‭ ‬للتعليم،‭ ‬مخططات‭ ‬مسمومة‭ ‬قدمت‭ ‬ومازالت‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬أطباق‭ ‬من‭ ‬عسل‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬الإصلاح‭.‬

هكذا‭ ‬جاء‭ ‬التعاقد‭ ‬كآخر‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬هدم‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬المتهالكة،‭ ‬حيت‭ ‬قٌدّم‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بذريعة‭ ‬تجويد‭ ‬التعليم‭ ‬وخدمة‭ ‬المصلحة‭ ‬العليا‭ ‬للتلميذ،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفضح‭ ‬هذا‭ ‬الذريعة‭ ‬المشبوهة،‭ ‬ليتم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬سحب‭ ‬العقد‭ ‬شكليا‭ ‬والترويج‭ ‬لمغالطة‭ “‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬التعاقد‭”‬،‭ ‬فكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬ذريعة‭ ‬جديدة‭ ‬لشرعنة‭ ‬هذا‭ “‬التوظيف‭” ‬الأرعن،‭ ‬ولم‭ ‬تجد‭ ‬الوزارة‭ ‬غير‭ “‬الجهوية‭ ‬الموسعة‭”  ‬كوعاء‭ ‬حاضن‭ ‬فارغ‭ ‬تملأ‭ ‬به‭ ‬الجو‭ ‬ضجيجا،‭ ‬حيت‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬الترويج‭ ‬لمصطلحات‭ ‬وعبارات‭ ‬رنانة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬الأساتذة‭ ‬الجدد،‭ ‬أطر‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬الموظفين‭ ‬العموميين‭ ‬الجهويين‭..)‬،‭ ‬وسخرت‭ ‬كل‭ ‬قواها‭ “‬الإعلامية‭” ‬لتضليل‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬النظام‭ ‬الأساسي‭ ‬لأطر‭ ‬الأكاديميات،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬حسب‭ ‬مزاعمها‭ ‬مطابق‭ ‬ومعادل‭ ‬للنظام‭ ‬الأساسي‭ ‬لموظفي‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬الوطنية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬الواقع‭ ‬يفند‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الادعاءات،‭ ‬فالأكاديميات‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬أبسط‭ ‬الوسائل‭ ‬اللوجيستيكية‭ ‬في‭ ‬المدارس،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يراهنون‭ ‬عليها‭ ‬لتحقيق‭ ‬الاستقلال‭ ‬المالي‭ ‬وتوفير‭ ‬مستحقات‭ ‬موارد‭ ‬بشرية‭ ‬بالآلاف،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬ستجلب‭ ‬هذه‭ ‬الموارد؟‭ ‬المصدر‭ ‬معروف‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬ولازلنا‭ ‬نحذر‭ ‬منه‭ ‬ونناضل‭ ‬ضده،‭ ‬طبعا‭ ‬جيوب‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭ ‬الكادح‭ ‬هي‭ ‬المصدر‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬القريب‭ ‬وهو‭ ‬الرهان‭ ‬والهدف‭ ‬الحقيقي‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬نظام‭ ‬التعاقد‭ ‬المشؤوم‭ ‬بدل‭ ‬ما‭ ‬يتبجحون‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المصلحة‭ ‬العليا‭ ‬للتلميذ‭ ‬وترسيخ‭ ‬الجهوية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬الرنانة‭.‬

وأمام‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬والتخبط‭ ‬والعشوائية‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬ملف‭ ‬التعاقد‭ ‬والملفات‭ ‬العالقة‭ ‬الأخرى‭ ‬وفي‭ ‬غياب‭ ‬إرادة‭ ‬حقيقية‭ ‬لحلحلتها،‭ ‬وعوض‭ ‬فتح‭ ‬قنوات‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬التنسيقية‭ ‬الوطنية‭ ‬للأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬فرض‭ ‬عليهم‭ ‬التعاقد‭ ‬ومع‭ ‬الإطارات‭ ‬النقابية‭ ‬الأخرى‭ ‬الغيورة‭ ‬على‭ ‬الشغيلة‭ ‬التعليمية‭ ‬وعلى‭ ‬حقوق‭ ‬ومكتسبات‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي،‭ ‬لجأت‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬كعادتها‭ ‬للقمع‭ ‬والتنكيل‭ ‬والاعتقالات‭ ‬والمتابعات‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الأساتذة‭ ‬والاقتطاعات‭ ‬العشوائية‭ ‬من‭ ‬أجورهم‭ ‬الهزيلة،‭ ‬في‭ ‬ضرب‭ ‬صارخ‭ ‬للحق‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والاحتجاج،‭ ‬وجيشت‭ ‬إعلامها‭ ‬وأبواقها‭ ‬المسعورة‭ ‬لشيطنة‭ ‬قضية‭ ‬الأساتذة‭ ‬المفروض‭ ‬عليهم‭ ‬التعاقد‭ ‬أمام‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬وكثفت‭ ‬من‭ ‬الخرجات‭ ‬الإعلامية‭ ‬والتسريبات‭ ‬الصوتية‭ ‬المشبوهة‭ ‬وغير‭ ‬المسؤولة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬فاشلة‭ ‬ومفضوحة‭ ‬لنفث‭ ‬السموم‭ ‬في‭ ‬جسم‭ ‬التنسيقية‭ ‬وخلق‭ ‬صراعات‭ ‬داخل‭ ‬هياكلها‭ ‬وعزلها‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬فئات‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭.‬

فالقمع‭ ‬والاعتقالات‭ ‬وكل‭ ‬أشكال‭ ‬التضييق‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ولن‭ ‬تكون‭ ‬يوما‭ ‬حلا‭ ‬للازمة،‭ ‬والتنسيقية‭ ‬الوطنية‭ (‬أ‭.‬ف‭.‬ع‭.‬ت‭) ‬كانت‭ ‬ولازالت‭ ‬دائما‭ ‬مستعدة‭ ‬للحوار‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬إسقاط‭ ‬التعاقد‭ ‬وإدماج‭ ‬جميع‭ ‬الأساتذة‭ ‬في‭ ‬الوظيفة‭ ‬العمومية‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى