فكر وآراء

غصن زيتون جريح

((لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مظلمة.)) غسان كنفاني

مزيد: من حب السلام.. من حب الأطفال.. من حب الوطن.. من كره الاحتلال..

آخر وصايا أبي، قبل أن يرعد صادحا في وجه بني تتار، عندما فارق الدنيا أشلاء تتطاير، كشعاع برق. كشتات قطرة ماء. كزجاج انشطر أشلاء، أشلاء، أشلاء.

الارتعاد والاستعداد للرحيل. نحيب وبكاء النساء. خوف وترقب. صور الحقائب، ولغات متعددة تركلني. لم أكن أفقه معانيها، إلا أنني أدركت أن مغزاها الطرد والتهجير. ارتسمت في مخيلتي شجرة زيتون باسقة عليها حبل أرجوحتي.

ودعتني عكا، واستقبلني لبنان، ثم بعثني وديعة إلى سوريا، التي لفظتني نحو مصر، التي اعتذرت بضيق ذات اليد، لأجد نفسي سجينا في خرم إبرة بغزة. يوم اشتد ساعدي، وجدتني بين رفاق الجبهة الشعبية بالقطاع، نستقبل رياح الرصاص، ونلتحف القنابل، لمجرد تصريح عابر، لمسؤول يحب اعتلاء صهوات القنوات الفضائية.

لكل فرد في أرضنا ألف قصة وقصة. حكايات لا تنتهي، تختلف لتلتقي، في الألم والأمل. سرد عائم فوق بحر دماء هائجة.

أصبح تساقط الأجساد الصرعى أمرا اعتياديا. إنه طقس سرمدي. صلاة جنازة صارت فريضة. حين تتصاعد الصرخات، وتنطبق السماء على الأرض، تسجد العمارات، تنفجر الجماجم، تسجد العمارات، جوع وحصار. خراب، خراب، خراب…….

أنظر في وجه مارية- فدائية مهجرة من يافا كحالتي من أب مسلم وأم مسيحية، لكنها تعتنق ديانة البندقية والضماد والحب والحنان- أجدها مبتسمة دائما، تحوم بين الجرحى، مثل كلمة المسيح التي تحيي الموتى بإذن الرب.

سمعت صراخ رضيع في المخيم، أطللت من النافذة. وقع ناظري على طفل جريح، مكلوم برصاص المحتل الطائش، الذي اخترق كتفه الصغير. لما فرغت مارية من عملها، أقبلت على جاهشة بالبكاء، على غير عادتها! جلست بالقرب من الطاولة متجهمة. وأخذت تقرأ رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، لأنها لاحظت أني قابع في ظلام صمت مطبق. سألتني مستفسرة عن الرواية، قاصدة استثارة الكلام، لطرد الملل:

  • كيف وجدت سؤال أبي الخيران؟
  • فأجبت: إنه ذكي فعلا.

أتحدث وكأسي لا تفارقني، أتأمل عينيها اللوزيتين، وشفتيها الورديتين. لحظة لذة فجائية، لم أستسغ ورودها، ولم أستشعرها منذ مدة. وللتو اندهشت أمام فيضان الإغراء الذي ينبعث من جسدها الفاتن. إنها ثريا كنيسة، شعاع شمس الظهيرة، شجرة رمان مزهوة بثمارها الحمراء اليانعة.

تقاربت المسافة، واحتدم الشوق، وتماهى الجسدان فرحة واحتفالا بدقيقة إحساس بالوجود في هذا الكون.

  • قالت: هل تعرف الحب؟
  • قلت: إنه إحساس.
  • قالت: وما نحن عليه الآن، إنها الشهوة وحسب.
  • قلت: إن في الشهوة بعض الحب أيضا.

ارتشف جسدي نبرة لذة تكسرت عند بزوغ الفجر، الذي أعلن انتقالنا من الحصار إلى الحصار. تناهى إلى مسامعي دوي رشاش بعيد المدى، انطلق النفير وصفارات الإنذار. يقول زياد قائد نسور المخابرات، إن أوامر القيادة العليا تقضي بالتربص على حدود السياج، فالخطر قادم، إنه يعيش فينا.

  • قالت مارية: ماذا ستفعلون ببنادقكم، تجاه فوهات الدبابات، وصهيل الصواريخ، والنفاثات.
  • قلت: سنقرع جدران الخزان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى